فاعلَمْ أنَ اليومَ فاصلٌ لكَ بينَ عهدَيْنِ، وتحوُّلٌ جِذْرِيٌّ في مسارِ حياتِكَ، ولذا حصرَ رسولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم - الحجَّ فيهِ فقالَ : " الحجُّ عرفةَ ". ( صحيح ) انظر حديث رقم : 3172 في صحيح الجامع.
وما أشبهَ اليومَ بيومِ الحشرِ، يومِ القيامةِ .. فاستشعرْ مثولَكَ أمامَ اللهِ في ميدانِ الحشرِ، وحيرتَكَ في هذا الموقفِ بينَ الردِ والقبولِ، وطمعَكَ في شفاعةِ الرسولِ، وأجْرِ على نفسِكَ اليومَ تأملاً ما سيجري عليكَ غداً حقيقةً وواقعاً.
وألزِمْ قلبَكَ الضراعةَ والخشوعَ والتوبةَ والخضوعَ، وأخرِجْ كلَ خاطرٍ من خواطرِ الدنيا من قلبِكَ، وأقبِلْ على اللهِ بكلِ ذرةٍ من كيانِكَ، فمنذُ سنينَ وأنتَ تحاولُ الوصولَ إلى ساحلِ القبولِ وما أدركتَ الشَطَّ، وها هو اليومَ أمامَكَ على مرمى البصرِ، فإنْ كتبْتَ جوابَ توبتِكَ بدموعِ الأسفِ غُفِرَ لكَ ما قدْ سلفَ. وأشهِرْ فيهِ إفلاسَكَ واعترفْ بفقرِكَ، وأقِرَّ بعجزِكَ وجهلِكَ، واستحضِرْ صحيفةَ ذنوبِكَ الماضيةِ وقبيحَ سوابقِكَ المهلكةِ، واذكرْ الساعاتِ الضائعةَ منْ عمرِكَ، واندمْ على التفريطِ في زمنِ الصِبَا، فكمْ أتعبْتَ الملائكةَ الحفظةَ سنينَ، وسهرْتَ في المعاصي حيناً بعدَ حينٍ، وأظهِرْ الفاقةَ والمسكنةَ حتى تكونَ منْ مستحقي الصدقاتِ، ألمْ تقرأ ْقولَ ربِكَ : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ }.
وتعبيراً عنْ ذلكَ :
ارفعْ يديْكَ إلى صدرِكَ متمثِّلاً أعلى درجاتِ الذلِ والعبوديةِ مقلداً نبيَّكَ الذي قالَ عنهُ ابنُ عباسٍ - رضي الله عنه - : رأيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يدعو بعرفةَ ويداهُ إلى صدرهِ كاستطعامِ المِسكينِ.
يا اللهُ .. يفعلُ هذا وقد حُشرِتْ لهُ جزيرةُ العربِ عنْ بَكْرَةِ أبيها بقبائلِها وأبطالِها وشعرائِها وبطونِها، تأتمرُ بإشارةٍ واحدةٍ منهُ، لكنهُ - صلى الله عليه وسلم - كانَ كلما ملكَ زادَ فقراً، وكلما علا سجدَ ذلاً، لعلمِهِ أنَ الفضلَ كلَّ الفضلِ للهِ ربِ العالمينَ، فليتعلَّمْ ذلكَ كلُّ منْ مَسَّتْهُ نفحةُ كبرٍ أو أصابتْهُ نوبةُ غرورٍ ليتواضِعَ.
وأكثرِ اليومَ منَ الدعاءِ، فهوَ عبادةُ الوقتِ وأفضلُ الأعمالِ في هذهِ الساعاتِ، وأقربُ دعاءٍ منَ القبولِ على الإطلاقِ، فقدْ قالَ النبيُّ " أفضلُ الدعاءِ دعاءُ يومِ عرفةَ ". ( حسن ) انظر حديث رقم : 1102 في صحيح الجامع.
وقدْ منعكَ اللهُ منْ صيامِ هذا اليومِ وحرَّمَهُ عليكَ حتى لا تضعفَ عنِ الدعاءِ، وأيضاً جعلَ الظهرَ والعصرَ قصراً وجمعاً حتى يفرغَ لكَ الوقتَ للدعاءِ حتى مغيبِ الشمسِ، وكأنَّ المقصودَ أنْ يطولَ دعاؤكَ وتضرعُكَ إلى أقصى ما تستطيعُ، فسبحانَ منْ أعانَكَ على ما فيهِ نفعُكَ ثم تنساهُ!! وأرشدَكَ إلى ما فيهِ فوزُكَ ثم تغفلُ عنهُ!!
ولا تضيعْ اليومَ لحظةً واحدةً مقتدياً في ذلكَ بنبيكَ - صلى الله عليه وسلم - الذي شغلَهُ الذكرُ والدعاءُ يومَ عرفةَ عنْ كلِّ شيءٍ حتى عن طعامِهِ وشرابِهِ، حتى ظنَّ كثيرٌ منَ الصحابةِ أنهُ صائمٌ، فقالَ بعضُهُم هو صائمٌ وقالَ بعضُهُم ليسَ بصائمٍ، فأرسلَتْ أمُّ الفضلِ بنتُ الحارثِ إليهِ بقدحِ لبنٍ وهوَ واقِفٌ على بعيرِهِ بعرفةَ فشرِبَ. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 2132 في صحيح أبي داود وهو في البخاري ومسلم.
وعنْ أسامةَ بنِ زيدٍ - رضي الله عنه - : " كنتُ رديفَ النبيِ - صلى الله عليه وسلم - بعرفاتٍ فرفعَ يديهِ يدعو، فمالَتْ بهِ ناقتُهُ فسقطَ خطامُها، فتناولَ الخطامَ بإحدى يديهِ وهو رافعٌ يدَهُ الأخرى ". ( صحيح ) انظر حديث رقم : 2961 في سنن النسائي وحديث رقم : 20820 في مسند أحمد.
نعمْ لمْ يضيعْ لحظةً واحدةً، وكأنه يقولُ لكَ : الوقتُ اليومَ لا يقدرُ بثمنٍ، فكلُ لحظةٍ تُنفقُها في غيرِ طاعةٍ أعظمُ خسارةٍ، يقولُ جابرٌ - رضي الله عنه -: " .....، ثم ركبَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى الموقفَ فجعلَ بطنَ ناقتِهِ إلى الصخراتِ، وجعلَ جبلَ المشاةِ بينَ يديهِ، واستقبلَ القبلةَ فلمْ يزلْ واقفاً حتى غربتِ الشمسُ ". ( صحيح ) انظر حديث رقم : 2494 في صحيح ابن ماجة. تأملْ قولَهُ : " فلمْ يزلْ واقفاً حتى غربتِ الشمسُ "... داعياً دونَ مللٍ، راجياً دونَ كللٍ.
أحكام الوقوف بعرفة
يصلي الحاج فجر اليوم التاسع في منى ثم ينتظر حتى طلوع الشمس ثم يتوجه إلى عرفات، وفي وقتنا الحاضر من الصعب أن يتوجه الحجاج كلهم في وقت واحد إلى عرفة فلا بأس أن يتوجه إلى عرفات قبل هذا الوقت أو بعده .. فيختار الأيسر له وليكون مع رفقته أو حملته أولى والمهم أن يتواجد عند الظهر بعرفة بحالة جيدة ونشاط غير منهك
ويسن الإستماع لخطبة يوم عرفة وهي مثل خطبة الجمعة، ثم يصلي بعدها الظهر والعصر جمع تقديم وقصراً بأذان واحد وإقامتين .. والسنة أن يصليهما بمسجد نمرة، لكن الأولى مع شدة الزحام أن يصليهما بمخيمه خلف إمام المخيم .. ولا يصلي قبلهما ولا بعدهما ولا بينهما شيء .. ولا يصوم يوم عرفة .. ويمكث بعرفة للدعاء حتى تغيب الشمس .. فإذا غابت الشمس توجه إلى مزدلفة في هدوء وسكينة
أخطاء يوم عرفة
1 . محاولة البعض الذهاب إلى الجبل الذي يسمى جبل الرحمة .. ويقصدون بذلك التعبد .. والصحيح أن هذا المكان هو مجرد مكان بعرفة وليس له ميزة على غيره ولم يرد نص على تميزه عن باقي عرفة ..
وبعض ممن يذهبون للجبل يستقبلون الجبل للدعاء .. والسنة هو استقبال القبلة وليس الجبل
واعلم أخي الحاج أن محاولة الوصول لهذا الجبل تسبب الزحام وتسبب الإنشغال عن الدعاء وضياع الوقت في الإنتقال إلى الجبل والعودة منه وقد تتسبب في فقدان الرفقة .. وكل هذا دون فائدة
2 . عدم تحري الوقوف داخل حدود عرفة التي شرعها الله .. ومن لم يقف داخل حدود عرفة جاهلاً أو ناسياً فحجه غير صحيح
ونود التنبيه في ذلك على أن مسجد نمرة أغلبه يقع داخل حدود عرفة ولكن مقدمة المسجد خارج حدود عرفة .. ويوجد داخل المسجد ضوء أخضر يشير إلى حدود عرفة
3 . عدم أخذ وقت كافي من الراحة ليلة عرفة وقبل ظهر يوم عرفة مما يجعل الحاج لا يقوى على التركيز بالدعاء
4 . الإفراط والتفريط في مسألة الأكل .. فالبعض يأكل قليلاً جداً مما يجعله منهك القوى لا يقوى على الدعاء والتركيز فيه والبعض يكثر من الأكل فيثقل رأسه ويحتاج النوم ويحتاج الذهاب إلى دورة المياة كثيراً مما يضيع وقت الدعاء .. والأفضل أن يأكل المرء ما يكفيه ليقيم صلبه ويجعله ينشط في الدعاء .. ويكون معه شيئاً بسيطاً من الأكل يأكله كلما شعر بفتور وضعف مثل تمر أو عسل أو شوكولاته
5 . اعتقاد بعض الحجاج أفضلية ركوب المركبة تأسيا بالنبي الذي حج راكبا .. واعتقاد البعض الآخر أفضلية الحج مشيا لزيادة المشقة والأجر .. والصحيح أنه لا توجد أفضلية لهذا ولا ذاك وإنما يفعل المرء الأيسر له والأرفق بحاله وما يجعله أكثر خشوعاً
6 . الغفلة عن شرف هذا اليوم .. وإضاعة الوقت بما لا ينفع .. فلا تنشغل أخي الحاج عن الدعاء والذكر بأي حال
7 . الأدعية والأذكار الجماعية، والسنة أن يدعو كل حاج بمفرده .. ولا بأس إن استخدم كتابا به بعض أدعية النبي .. وإن دعا إمام الخيمة دعاءا جماعيا لفترة قصيرة فلا بأس من المشاركة معه ..
8 . ومن الأخطاء الإفاضة من عرفة قبل غروب الشمس، وذلك مخالفا للسنة ومشابهة للمشركين الذين كانوا يدفعون إلى مزدلفة قبل غروب الشمس .. وكثير من أهل العلم يرى بوجوب دم على من لم يحضر بعرفة جزءا من الوقت بعد غروب الشمس
9 . الخروج عن الهدوء والسكينة عند الخروج إلى مزدلفة، وما يصحب ذلك من تدافع وإيذاء للمسلمين